الجوانب الدعوية في حياة المجدد

 

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين، وبعد:

إن من القضايا المغفلة في حياة شيخ الإسلام الإمام المجدد : محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – دراسة الجوانب الدعوية في حياة الشيخ ودعوته إذ كان التركيز في غالب ما كتب عنه منصباً على حياته وحقيقة دعوته ومؤلفاته ورسائله وأثر دعوته على الأمة جمعاء وعلى من جاؤوا بعده من أهل الإصلاح خاصة.

ولم تستوف بعد الجوانب الدعوية في حياته، بحيث تكون هناك دراسات حول دعوة الشيخ وأساليبه الدعوية ومقومات نجاح الدعوة، وصفات الشيخ الدعوية، وسمات دعوته، وقد عثرت على بعض الدراسات لكنها قليلة من جهة أو قد اقتصرت على جانب ولم تشتمل على الجوانب كلها، ولا يفوتني في هذا المقام الإشادة بالرسالة الماتعة التي كتبها الشيخ عبد المحسن الباز وفقه الله، وعنوانها (رسائل الإمام محمد بن عبد الوهاب الشخصية دراسة دعوية)، فقد أجاد فيها وأفاد، وأبدع في إبراز الجانب الدعوي في رسائل الشيخ، لكن بقيت بقية الجوانب والأبعاد الدعوية في حاجة إلى دراسات مماثلة والميدان شحيح والحاجة ماسة.

والذي يدعونا إلى طرق هذا الجانب عدة أسباب:

1- حاجة الدعاة إلى رؤية تجارب دعوية ناجحة.
2- إن دعوة الشيخ تعد قريبة نسبياً من واقعنا الذي نعيشه.
3– إن دعوة الشيخ كتب لها النجاح، وحققت ما أخفقت في تحقيقه كثير من الدعوات.
4- كون الشيخ ممن جمعوا بين العلم والدعوة والعمل.
5- حرص الشيخ على اتباع السلف وإحياء السنن، فالدعوة تكون أقل عثاراً، وأفضل في جانب الاقتداء.

 

وبما أن الحديث عن الجوانب الدعوية في حياة المجدد طويل لا تكفيه مقالة ولا محاضرة فإني سأكتفي هنا بذكر أهم ما يتعلق بالموضوع في نقاط مختصرة إيقاظاً وتنبيهاً، ولعل الله ييسر الكتابة حول هذا الموضوع بتفصيل وبيان، والله الموفق والمعين.

1- الاتصال بولاة الأمر ودعوتهم:
منذ بدأ الشيخ دعوته في العيينة لم يجعل بينه وبين الأمراء حاجزاً يمنعه من الوصول إليهم وتبليغهم دين الله، وقد حصل الشيخ مراده عندما استجاب له أمير العيينة عثمان بن معمر، ولما تغير عليه، انتقل الشيخ بدعوته إلى أمير الدرعية محمد بن سعود الذي وفقه الله لقبول هذه الدعوة وحماية قائدها.

2- توزيع المسؤوليات:
لم يستأثر الشيخ في إدارة الدعوة بجميع الأدوار لمعرفته بأن الدعوة جهد جماعي يجب أن تتضافر فيه الجهود ويجتمع على القيام به ذوو التخصصات المختلفة، ولذا كان الشيخ يرسل بعض طلابه إلى أهل المناطق لتعليمهم أو لمناظرة المخالفين، كما أرسل مجموعة من الطلبة ليقوموا بدعوة بعض المخالفين ومذاكرته وتوضيح التوحيد له، وكان يعين الأمراء، ويدعو الوفود للالتقاء بهم وتذكيرهم بواجبهم.

3- تنظيم الأوقات:
كانت دعوة الشيخ وحياته تسير بانضباط لتحقيق أقصى الثمرات بأقل جهد ووقت ممكن، ولذا كان الشيخ ينظم أوقاته بين إلقاء الدروس والتأليف ومراسلة السائلين وكتابة الفتاوى وفي الليل كان هناك وقت للعبادة والتهجد.

4- التدرج في الدعوة والإنكار:
لا يخفى أن قبول الناس لأي دعوة لا يمكن أن يتم دفعة واحدة، بل يؤخذ جرعات حتى يستسيغ الناس ذلك ويقبلوه، وهذا مما طبعت عليه النفوس لا يشذ عنه إلا نزر يسير من البشر، ولذا كان الشيخ يكتفي بالإنكار على الناس عندما يراهم حول قبة زيد بن الخطاب بقوله: الله خير من زيد، ولكنه – رحمه الله – لما وجد قبولاً من أمير العيينة شجعه ذلك على أن ينكر على أهل القبور شركهم وبدعهم باليد بعد أن أخذ الإذن من عثمان بن معمر بهدمها، بل إنه أصر على أن يصحبه الأمير عثمان بنفسه لهدمها.

5- التخطيط للدعوة:
التخطيط لأي أمر جوهر النجاح له، وقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يخطط لدعوته ونشر دين الله في الأرض وعلى منهجه سار المصلحون في الأرض، لقد كان الشيخ المجدد يخطط للدعوة بطريقة فذة، ويظهر ذلك في ميادين كثيرة، منها: أنه لما أراد قطع شجرة الذيب خرج إليها بنفسه سراً يريد قطعها، إذ إن قطعها علانية له آثار سلبية على الدعوة والداعية لا تحمد عقباها، ومنها: مراعاة أحوال المدعوين، فللعامة كتب ورسائل وللعلماء وطلبة العلم كتب أخرى مناسبة لهم.

6- مشاركته الفاعلة في أمور الدولة:
لم يكن الشيخ أستاذاً في جامعة أو محاضراً في مسجد أو داعية بين الجمهور فقط، بل كان – رحمه الله – يمارس الإصلاح الاجتماعي، والتوجيه السياسي، والإدارة بكل صورها وأبعادها، لقد كان – رحمه الله – يعين الأمراء أحياناً، وربما ذهب بنفسه لحل بعض المشاكل في المناطق المجاورة، ويتولى قسمة الأموال ويختار القضاة ويرسل الدعاة.

7- توظيف التأليف لخدمة الدعوة:
تكاد تكون مؤلفات الشيخ كلها في خدمة دعوته ولم تكن بمنأى عنها، وما كان الشيخ يكتب ويؤلف ترفاً فكرياً أو ليثري المكتبة الإسلامية أو ليزيد من أعداد المؤلفات، لكنه كان يؤلف ليدعو ويصلح، وتكون مؤلفاته رافداً عظيماً من روافد انتشار الدعوة، ولذا كتب لتلك المؤلفات البقاء، وسارت مسير الشمس، وشرقت بها الركبان وغربت، وكثرت شروحها، وعظم انتفاع الخلق بها، ولم تقتصر مؤلفاته على التأصيل لجوانب علمية بحتة لا يفهمها إلا طلاب العلم وشراة المعرفة، بل كتب حتى لعامة الناس وخطباء المساجد ومصلحي المدارس.

8- محو الأمية الدينية:
جاء الشيخ في وقت تكاد معالم الإسلام فيه أن تندرس، وحل بالمسلمين زمان عاد فيه كثير منهم إلى أفعال الجاهلية، ونسيت معالم الدين وأركانه، فقام الشيخ – رحمه الله – بجهد عظيم في هذا الباب قل من يتفطن له من الدعاة، وهو محو الأمية الدينية في المجتمع، وكان هذا المشروع الجبار من أبرز مشاريع الشيخ العملية، حيث كتب الشيخ بعض مؤلفاته لخدمة هذا الجانب كالأصول الثلاثة والقواعد الأربع، وتلقين أصول العقيدة للعامة، وثلاث مسائل يجب تعلمها على كل مسلم ومسلمة؛ لتدرس للعامة من رجال ونساء وبادية وحاضرة، وتقرأ عليهم في مساجدهم، ويرددها الدعاة والأئمة عليهم صباح مساء، ويطالبونهم بحفظها كل يوم بعد صلاة الفجر، حتى صار العامة من أتباع الشيخ خيراً من بعض العلماء في مناطق أخرى لمعرفتهم بأصول الدين وحفظهم لها واستمساكهم بها وإدراكهم التام لها.

9 – المراسلة:
كان الشيخ يراسل المدعوين، سواء كانوا من طبقة العلماء أو طلاب العلم أو الأمراء والأعيان أو عموم الناس، وكان الشيخ يدرك ما لهذه الوسيلة من أثر بالغ في مخاطبة المدعو والوصول إلى عقله وقلبه، وتحريك عوامل التأثر في نفسه، وكانت أحياناً جواباً لخطاب أرسل إليه، أو دفعاً لشبهة، أو حلاً لمعضلة، أو دعوة مباشرة، أو إيضاحاً لحقيقة ما يدعو إليه وإزالة الغبش الذي يطرح حوله، وغالب تلك الرسائل كان بعد المعاهدة المشهورة التي وقعت بينه وبين الإمام محمد بن سعود، وكان – رحمه الله – يطلب أحياناً من بعض الشخصيات المهمة التعليق على رسائله أو تقريظها ليكون سبباً لقبولها، وكان يأمر بنسخ بعض رسائله المهمة لتبعث إلى الأقطار لقراءتها على الناس، وقد أفاض الأستاذ عبد المحسن الباز في رسالته الآنفة الذكر في هذا الجانب بما لا مزيد عليه، وقد بلغت رسائل الإمام الشخصية ستاً وستين رسالة ضمنها الكثير من الأساليب والمضامين الدعوية المهمة.

10- الدعوة الفردية:
وهي الدعوة الموجهة إلى فرد بعينه يستعمل فيها الداعية عدداً من الأساليب والوسائل للتأثير عليه، وهذا النوع من الدعوات من أنفع الأساليب في التأثير على المدعوين وكسبهم وإقناعهم وإزالة الحواجز الوهمية بينهم وبين الداعية، وتحتاج من الداعية إلى مخالطة المدعو والتعرف على أحواله وأخلاقه، وقد كان المجدد – رحمه الله – يمارس هذا الدور بقوة وكسب عن طريقه أنصاراً كان لهم أعظم الأثر في نشر الدعوة، ومن ذلك:
لما قام الشيخ بترك حريملاء قاصداً العيينة نزل على أميرها عثمان بن معمر، وعرض عليه دعوته ونصرته، ووعده بالعز والتمكين إن هو نصر دين الله، وقَبِل ابن معمر ذلك ونصر الدعوة إلا أن تهديدات أمير الأحساء خوفته، ولذا قام الإمام بزيارة ابن معمر ووعظه وذكره بالله، ودعا مرة أحد المدعوين لزيارته، وأخبره أن الأمر إن كان شاقاً عليه فإن الإمام سيتوجه إليه ويزوره بنفسه، بل كان – رحمه الله – يدعو مخالفيه إلى الجلوس معه للمناقشة وإزالة الإشكال.

ولا يخفى أن كثيراً من الوسائل تبقى صامتة تخاطب عقل المدعو دون أن تحرك عواطفه وحواسه ولا يتعرف المدعو على الداعية إلا من جانب واحد لكن عبر اللقاء تزول كثير من الأوهام ويتعرف المدعو بحواسه كلها سمعه وبصره وفكره وقلبه على الداعية، وهذا أبلغ في التأثير وأوقع في النفس ولذا لما أطال في إحدى رسائله إلى عبد الله بن عيسى وابنه عبد الوهاب اعتذر عن الإطالة خوفاً مما قد تحدثه من سوء الفهم وأكد على ضرورة اللقاء، فقال: “وأخاف أن يطول الكلام فيجري فيه شيء يزعلكم، وأنا فيّ بعض الحدة، فأنا أشير عليكم وألزم أن عبد الوهاب يزورنا، سواء كان يومين وإلا ثلاثة، وإن كان أكثر يصير قطعاً لهذه الفتنة، ويخاطبني وأخاطبه من الرأس” (مجموع مؤلفات الشيخ 5/315).

11 – الفتاوى:
لم يكن الشيخ داعية محنكاً فحسب، ولكن كان عالماً متضلعاً من فنون الشريعة متأهلاً للفتيا، رحل في طلب العلم ولقي المشايخ الكبار وقرأ الأمهات وحصل المطولات، ولذا تلقى الناس فتاواه بالقبول، وراسلوه طلباً للإجابة على أسئلتهم، وقد استثمر الشيخ هذا الجانب في نشر دعوته وبيانها وإزالة اللبس عنها وكان لبعض فتاواه أثر كبير في هداية بعض المدعوين واستبانة الحق لهم بعد أن أثارت جدلاً واسعاً في المجتمع وقوبلت بتأييد ورد عريضين، ومن ذلك: أنه لما كان في العيينة أفتى بكفر بعض الطواغيت الذين زينوا للناس أن يصرفوا لأشخاصهم بعض العبادة التي لا تكون إلا لله، فأشكل الأمر على بعض علماء الدرعية وأئمة المساجد فيها فأرسل لهم الشيخ رسالة يوضح لهم فيها حقيقة القضية ويبين الأدلة الشرعية للفتوى، وكانت هذه الفتوى سبباً في هداية كثير من الناس واستبانتهم للحق، ولم يكن ممن يتعصبون لآرائهم أو يتنقصون علماء الإسلام في فتاواهم، بل كان متواضعاً يخضع للحق ويعلن على الملأ قبوله متى استبان، ويقول: “فإذا أفتيت أو عملت بشيء وعلمتم أني مخطئ وجب عليكم تبيين الحق لأخيكم المسلم” (مجموع مؤلفات الشيخ 5/241).
ولم يكن الشيخ يتبرم من كثرة أسئلة الناس أو يستثقلها، بل كان يستحث المدعوين على الأسئلة، ويؤكد أنه (لا يزعل من ذلك)، وكان – رحمه الله – يؤكد على عدم انتقاص العالم واطراح محاسنه لأجل مسألة أو مئة أو مئتين أخطأ فيها هذا العالم، بل الواجب إرشاده للصواب والإبقاء على مودته وعلو منزلته (المرجع السابق ورسالة الباز 1/133).

12 – الموعظة:
لا شك أن المواعظ سياط ا لقلوب تحرك الكسلان وتوقظ الغافل وتنبه المهمل، ولذا نجد الشيخ – رحمه الله – لا يكتفي بذكر الأدلة والبراهين على صحة الدعوة، بل إذا وجد من يعرف الحكم ولم ينقد له ذكره بالجنة والنار والقبر وعذابه، ورهبة الوقوف بين يدي الله – جل وعلا – يقول لأحد المدعوين: “فتضرع إلى الله بقلب حاضر خصوصاً في الأسحار أن يهديك للحق ويريك الباطل باطلاً، وفر بدينك فإن الجنة والنار قدام، والله المستعان” (مجموع المؤلفات 5/305)، ويحذر أحدهم من معاونة المشركين لأجل تنمية المال قائلاً له في رسالته إليه: “فإن الخلود في النار جزاء الردة الصريحة ما يُسوى (أي: يساوي) بُضَيعة (تصغير بضاعة)” (المرجع السابق 5/224).

13 – الإغلاظ بالقول:
عندما لا تنفع الملاينة ولا تجدي البراهين فإنه قد تنفع الغلظة بالقول مع مراعاة حدود الشرع وإدراك العواقب، ولذا قال موسى لفرعون: “قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً” (الإسراء: 102)، وقد أغلظ الشيخ بالقول لأقوام بعد أن استنفذ كافة الأساليب اللينة معهم، فقال: “وأنت لا تلمني على هذا الكلام، تراني استدعيته أولاً بالملاطفة، وصبرت منه على أشياء عظيمة، والآن أشرفت منه على أمور ما ظننتها” (مؤلفات الشيخ 5/141).

14- التهديد والتخويف:
وهو آخر دواء يستنفذه الداعية عندما لا تجدي كافة الوسائل مع المدعو، ولا شك أن بعض النفوس قد لا ينفع معها إلا هذا الأسلوب من الإنكار، وقد خاطب الإمام مرة أحد خصومه، الذي ظهر له أنهم يعادونه عناداً بعد قيام الحجة عليهم، فيقول الشيخ مهدداً متوعداً إن لم يتوبا إلى الله ويكفا عن محاربة دينه فإنه يفتي الناس بعدم الصلاة خلفهما، وعدم قبول شهادتهما، ووجوب عداوتهما (مجموع المؤلفات 5/226)، بل إنه دعا إلى المباهلة بعض مخالفيه تهديداً لهم وبياناً بأنهم مبطلون وإعلاماً باستيقان الشيخ بما يدعو إليه، فقال: “وأنا أدعو من خالفني إلى أحد أربع: إما إلى كتاب الله، وإما إلى سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وإما إلى إجماع أهل العلم، فإن عاند دَعَوْته إلى المباهلة، كما دعا إليها ابن عباس في بعض مسائل الفرائض” (مؤلفات الشيخ 5/226).

15- الحوار والمناظرة:
قال تعالى: “وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ” (النحل: من الآية125)، وقد حير الشيخ خصومه عندما استخدم هذه الوسيلة لما أوتيه من قوة حجة وسعة علم ودعوة حق وحدة ذكاء، وكان يناظر الإنسان بمذهبه إن كان شافعياً فبكلام الشافعية، أو مالكياً فبكلامهم، وهكذا.
وكان – رحمه الله – من شدة تمرسه يواجه الخصم بحججه، ويضرب أقوال الخصوم بعضها ببعض، وكان ينكر على من يحيد عن الموضوع حال المناظرة ويعرض بالذين يتهربون عن المواجهة، وكان يعلن أنه يقبل الحق متى استبان له، فليس جداله عن عصبية أو إثبات ذات أو لتعجيز خصم وإحراجه.

16- التجرد ونشدان الحق:
كان الشيخ – رحمه الله – لا يتعصب لقول أحد كائناً من كان إلا قول الله تعالى ورسوله – صلى الله عليه وسلم -، يقول – رحمه الله -: “ولست ولله الحمد أدعو إلى مذهب صوفي أو فقيه أو متكلم أو إمام من الأئمة الذين أعظمهم، مثل: ابن القيم، والذهبي، وابن كثير، وغيرهم، بل أدعو إلى الله وحده لا شريك له، وأدعو إلى سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -” (مجموع مؤلفات الشيخ 5/252).
ولا يخفى أن المدعو يتأثر كثيراً بمن ينشد الحق، ويسعى لطلبه ولا ينافح عن قول أحد لكونه معظماً عنده، ولا يطلب شيئاً لنفسه من محمدة أو جاه أو مال أو غير ذلك من مكاسب الدنيا ومراتبها، ولذا كان الأنبياء يصرحون لأممهم بأنهم لا يسألونهم على دعوتهم أجراً، قال الله تعالى عن هود: “يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ” (هود: 51)، ومثل ذلك ورد عن صالح وإبراهيم وغيرهم من أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم.

17- رد الشبهات والإجابة عليها:
لم يدع الشيخ – رحمه الله – الشبهات تعبث في قلوب الناس وتفسد عقولهم، فكان يرد على الشبهة أو الشبه، سواء أرسلت إليه أو سمعها أو كان يتوقع أن يقولها خصومه، ولذا كانت للشيخ مبادرات في رد الشبه قبل فشوها حماية للدعوة والمدعوين من التأثر بها، وكان رد الشيخ يتسم بالوضوح وعدم التعقيد فيستفيد منه العامي وطالب العلم وغيرهما، كما يقسم بالأصالة حيث يدفع الشبهة بالدليل من كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – لا بزخارف القول وتنميق الكلام، ولعل أوضح مثال على ذلك كتابه (كشف الشبهات)، وكتاب (مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد).

18- استشراف المستقبل:
هذا لون من التخطيط لمستقبل الدعوة، حين يقوم الداعية بدراسة الأوضاع الراهنة فيضع بدائل متعددة يقابل بها أي طارئ يستجد على صعيد الصراع بين الحق والباطل، ولعل من أجَلِّ الأمثلة على ذلك وأوضحها: عقد صلات مع بعض أهل الدرعية قبل أن يفارق العيينة أو يطرد منها، فكانت له صلة مع آل سويلم واثنين من إخوة محمد بن سعود، وهما: ثنيان ومشاري، بل إن كتاب تفسير سورة الفاتحة كتبه الشيخ حين كان في العيينة بناءً على طلب من ابن أمير الدرعية آنذاك، وهو: عبد العزيز بن محمد آل سعود.

19- هجر المكان الذي لا يقبل الدعوة:
إن هجر الداعية للمكان الذي رفض الدعوة أو تردد في قبولها ولم يعرها اهتمامه، والبحث عن مكان آمن يستقبل الدعوة ويهيئ الجو المناسب لانتشارها، ولذا خرج الشيخ من حريملاء إلى العيينة؛ لأن بعض أهلها هموا بالاعتداء عليه، ولأن أمير العيينة تأثر بدعوة الشيخ وقبلها فكانت الفرصة مناسبة للانتقال؛ لأن المقصود نشر الدعوة وقيامها، وهجر الأوطان من أشق الأمور على النفوس وأصعبها، لكن الذي يحمل هم إصلاح الخلق ورفع راية الحق لا يبالي أي أرض حلّ ما دامت مصلحة الدعوة تقتضي ذلك، ولما حصل التهديد لأمير العيينة حول الشيخ وأمره بالخروج منها خرج إلى الدرعية طالباً الملاذ الآمن له ولدعوته لعل الله أن يجعل ذلك سبب انتشار الدين ورفعة أمره.

20- مراعاة أحوال المدعوين:
إن مراعاة حال المدعو ضرورة تتوقف عليها نجاحات الداعية، والفرق بين الداعية وغيره أن الداعية يتبع الحكمة ويراعي المدعو لعله يوافق من قلبه قبولاً ومن ذهنه فهماً ومن عاطفته ميلاً واستجابة، ولذا كان تعامل الشيخ مع المدعوين مختلفاً حسب أحوالهم وظروفهم ومستويات تفكيرهم ومناصبهم، ومن تأمل كتب الشيخ ورسائله وجد ذلك جلياً ظاهراً حتى إنه ليكتب بعض عباراته بالعامية لتحقيق هدفه ومراعاته لمدعويه، لا كما في كتاب تلقين أصول العقيدة للعامة، ولما خرج إلى الدرعية وتعاقد مع محمد بن سعود راعى جانب السلطة والإمارة عنده فلم ينازعه إياها أو يدعي لنفسه ما يدعو الأمير إلى التلكؤ والرد، بل حفظ للمدعو حقه ومكانته، ومن قرأ خطب الشيخ وجد هذا المعنى في خطبه من مراعاة أحوال المدعوين، ورسائله – رحمه الله – يختلف أسلوبها باختلاف المدعو.
وختاماً:
هذه بعض الجوانب الدعوية في دعوة الشيخ وهي غيض من فيض، وقد بقيت فيها بقية، كما أن ما ذكر يحتاج في بعض الأحيان إلى بسط وتوضيح وتمثيل، أسأل الله تعالى أن يوفق للقيام بذلك، ويعين عليه ويخلص الأقوال والأعمال، والله المستعان وعليه التكلان.

أضف تعليقًا