من المألوف لدى كل قارئ لكتب التفسير أن يجد المفسِّر يكاد ألاَّ يغفل عن ذكر المناسبة بين الآية والتي بعدها، أو السورة والتي تليها، أو الحكم وما قارنه من أسماء الله وصـفـاتـــه، ونحــو ذلـك، ولـم يـدُرْ بخلـد كثير من القراء أن هذا العلم علم عظيم حظي بعناية العلماء واهتمامهم وأفردوا له المؤلفات تحقيقاً أو تطبيقاً.
وفيما يلي ـ أخي القارئ ـ إطلالـــــة عابرة تبين لك جوانب هذا العلم، وتعرفك بمقاصده، وتكشف لك أنواعه وتاريخه وأهم المؤلفات فيه .
تعريفه:
المناسبة في اللغة: المقاربة والمشاكلة (الإتقان للسيوطي ،2/139.).
ويعــرف اصطلاحاً بأنه: علم تعرف به وجوه ارتباط أجزاء القرآن بعضها ببعض، وقولُنا: (أجزاء القرآن) شامل للآية مع الآية، والحكم مع الحكم، والسورة مع السورة، والقصة مع القصة، وكل جزء من القرآن مع ما قارنه.
أهميته وأقوال العلماء فيه:
لقد أبان العلماء فيما سطروه بجلاءٍ عــــن أهمية هذ العلم وعظيم الفائدة بمعرفته حتى قال الفخر الرازي: “أكثر لطائف القرآن مودَعة في الترتيبات والروابط”( انظره في: البرهان، للزركشي، 36، والإتقان 2/138.).
وقال الزركشي: “واعلم أن المناسبة علم شـريــف تحزر به العقول، ويعرف به قدر القائل فيما يقول”( البرهان: 35.).
أمــــا القاضي أبو بكر بن العربي فقد كشف عن منزلة هذا العلم بقوله: “ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى يكون كالكلمة الواحدة متسعة المعاني، منتظمة المباني… علم عظيم لم يتعرض له إلا عالم واحد عمل فيه سورة البقرة، ثم فتح الله ـ عز وجل ـ لنا فيه، فلما لم نجد له حَمَلَةً ورأينا الخلق بأوصاف البطلة ختمنا عليه، وجعلناه بيننا وبين الله ورددناه إليه”( البرهان:36، وانظر الإتقان: 2/136.).
وقال الرازي: “علم المناسبات علم عظيم أودعت فيه أكثر لطائف القرآن وروائعه، وهو أمر معقول إذا عرض على العقول تلقته بالقبول”( البرهان: 35.).
وقال في تفسير سورة البقرة: “ومن تأمل في لطائف نظم هذه السورة وفي بدائع ترتيبها علم أن الـقــــرآن كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه فهو أيضاً بسبب ترتيبه ونظم آياته”( نظم الدرر: 1/9، والإتقان:2/138.).
وقال البقاعي مبيناً فائدة جليلة من فوائد معرفة هذا العلم: “وبهذا العلم: يرسخ الإيمان في القلب ويتمكن من اللب؛ وذلك أنه يكشف أن للإعجاز طريقتين:
إحداهما: نظم كل جملة على حيالها بحسب التركيب.
والثانية: نظمها مع تاليتها بالنظر إلى الترتيب. والأول أقرب تناولاً وأسهل ذوقاً؛ فإن كل من سمع القرآن مـن ذكـي وغـبـي يـهـتــز لمعانيه وتحصل له عند سماعه روعة بنشاط مع انبساط لا تحصل عند سماع غيره، ثم إذا عـبـر الفطن من ذلك إلى تأمُّل ربط كل جملة بما تلته وما تلاها خفي عليه وجه ذلك، ورأى أن الجمل متباعدة الأغراض متنائية المقاصد، فظن أنها متنافرة، فحصل له من القبض والكـــرب أضعاف ما حصل له بالسماع من الهزّ والبسط، ربما شككه ذلك وزلزل إيمانه؛ فإذا استعان بالله وأدام الطرق لباب الفرج بإنعام التأمل وإظهار العجز والوقوف بأنه في الذروة من إحكام الربط كما كان في الأوج من حسن المعنى، فانفتح له ذلك الباب، ولاحت له من ورائه بوارق أنوار تلك الأسرار رقص الفكر منه طرباً وشاط لعظمة ذلك جنانه، ورسخ من غير مرية إيمانه”(نظم الدرر: 1/10ـ12).
أول من أظهره، وأهم المؤلفات فيه:
يعد العلـمـاء أبا بكر النيسابوري (ت 324هـ) أول من أظهر علم المناسبات في بغداد، وكان يزري على عـلـماء بغداد لجهلهم وجوه المناسبة بين الآيات، وكان إذا قرئت عليه آية أو سورة يقول: لِمَ جُعلت هذه الآية إلى هذه؟ وما الحكمة في جعل هذه السورة إلى جنب هذه السورة (انظر: البرهان، للزركشي: 36).
وهذه الأولية إنما هي باعتبار شدة العناية والتعليم؛ وإلا فالمتتبع لتفاسير السلف حتى من الصحابة يجدهم يتحدثون أحياناً عن المناسبات في بعض المواطن وإن كانت قليلة.
وقد ذكرنا آنفاً كلمة ابن العربي حين تكلم في هذا العلم وشكواه من بطالة النقلة.
أما المؤلفات فيه فهي على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: من أفرده بالتصنيف، ومن أشهرهم:
1 – أبو جعفر بن الزبير الأندلسي ( ت 807 هـ) في كتابه: “البرهان في مناسبة ترتيب سور القرآن”.
2 – السيوطي (ت 911 هـ) في كتابه: “تناسق الدرر في تناسب السور”.
3 – عبد الله الغُمَاري في كتابه: “جواهر البيان في تناسب سور القرآن”.
وأعظم من كتب في هذا العلم وأشفى على الغاية القصوى فيه، وغدا مرجعاً لا يستغنى عنه فـيـه هـــــــو برهان الدين البقاعي (ت 885 هـ) في كتابه: “نظم الدرر في تناسب الآيات والسور” حـيــــث ذكر المناسبات بين آيات القرآن وسوره كلها وبلغ كتابه اثنين وعشرين مجلداً.
الـقـســم الثاني: الذين جعلوه نوعاً من علوم القرآن الكريم وتحدثوا عنه في باب من كتبهم، ومن أشهرهم:
1 – الزركشي في كتابه: “البرهان في علوم القرآن” فقد جعله النوع الثاني من كتابه الكبير.
2 – السيوطي في كتابه: “الإتقان” وقد جعله في النوع الثاني والستين.
القسم الثالث: الـمـفـسـرون الـذين عُنُوا بذكر المناسبات في تفاسيرهم، ومن أشهرهم:
1- الفخر الرازي في تفسيره الكبير: “مفاتيح الغيب”.
2- أبو السعود في تفسيره: “إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم”.
3- سيد قطب في كتابه: “في ظلال القرآن” حيث كان يفتتح تفسير السورة بذكر موضوعها العام، ثم يربط بين مقاطع السورة على ضوء ما ذكره من موضوعها وجوّها العام.
فوائد هذا العلم:
لهذا العلم فوائد، ومن أهمها:
1- أنه يزيل الشك الحاصل في القلب بسبب عدم التأمل في دقة النظم وإحكام الترتيب، وقد تقدم كلام البقاعي في هذه القضية (البرهان:36.).
2 – أنـــه يـفـيــد في معرفة أسرار التشـريع وحِكَم الأحكام وإدراك مدى التلازم التام بين أحكام الشريعة؛ فـإذا قرأت قوله ـ تعـالـى ـ: ((قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم)) [النور: 30] وتعرفت على المناسبة بين الأمر بغض البصر وحفظ الفرج علمت ما بينهما من التلازم والتلاؤم؛ فحفظ الفرج لا يتم إلا بغض البصر، ومن أطلق بصره في الحرام فحري أن تزلَّ قدمه في الآثام.
3- أنه يعين على فهم معنى الآيات وتحديد المــراد منهــا، ومــن ذلك: خلاف المفسرين في معنى قوله ـ تعالى ـ : ((والصافات صفا)) [الصافات: 1]، فقال قوم: هي الملائكة، وهذا قول الجمهور، وقـال آخــــرون: هي الطير، والصـحـيــح الأول؛ وذلك لأنا لو بحثنا عن المناسبة بين أول السورة وخاتمتها لوجدناه ذكر في الخاتمـة في معرض حديث الملائكة عن أنفسهم: ((وإنا لنحن الصافون . وإنا لنحن المسبحون)) [الصافات: 165، 166].
4- وبه يتبين لك سر التكرار في قصص القرآن، وأن كل قصة أعيدت في موطن فلمناسبتها ذلـك الـمـوطــن، ولذلك ترى اختلافاً في ترتيب القصة ونظمها بحسب المناسبة وإن كانت متحدة في أصل المعنى(نظم الدرر: 1/14).
قواعد في علم المناسبات:
عـلم المناسبات كغيره من العلوم له قواعد وضوابط ينطلق منها المتحدثون فيه، ومنها:
الأولى: في كيفية التعرف على المناسبات في السورة جملة:
قــال المشرالي المغربي: “الأمر الكلي المفيد لعرفان مناسبات الآيات في جميع القرآن هو أنك تـنـظـر الغرض من المقدمات، وتنظر إلى مراتب تلك المقدمات في القرب والبعد من المطلوب، وتـنـظــــر عـنـد انـجـرار الكلام في المقدمات إلى ما يستتبعه من استشراف نفس السامع إلى الأحكام واللوازم التابـعـــة له التي تقتضي البلاغة شفاء العليل بدفع عناء الاستشراف إلى الوقوف عليها؛ فهذا هـــــو الأمر الكلي المهيمن على حكم الربط بين جميع أجزاء القرآن، وإذا فعلته تبين لك ـ إن شاء الله ـ وجه النظم مفصلاً بين كل آية وآية في كل سورة” (نقله السيوطي في الإتقان 2/141 عن بعض المتأخرين).
وقد لخص البقاعي تجربته فـي الـتـعــرف على المناسبة فقال: “تتوقف الإجادة فيه على معرفة مقصود السورة المطلوب ذلك فـيـهـــا، ويفيد ذلك معرفة المقصود من جميع جملها؛ فلذلك كان هذا العلم في غاية النفاسة، وكانت نسبته من علم التفسير نسبة علم البيان من النحو” ( نظم الدرر:1/6.).
والـمـتأمل لما كتبه سيد قطب في ـ ظلاله ـ يجده سار على هذا المنوال في بيان أوجه الربط بين مقاطع السورة.
الثانية: قال الزركـشي: “وعادة القرآن العظيم إذا ذكر أحكاماً ذكر بعدها وعداً ووعيداً؛ ليكون ذلـك باعثاً على العمل بما سبق، ثم يذكر آيات التوحيد والتنزيه؛ ليُعلم عظم الآمر والناهي، وتأمل سورة البقرة والنساء والمائدة وغيرها تجده كذلك” ( البرهان:40.).
الثالثة: المزاوجة بين الوعد والوعيد، والبشارة والنذارة، والترغيب والترهيب؛ وفي ذلك من الحكمة والمناسبة ما هو بيِّن لكل متأمل.
الرابعة: قال السيوطي: إن عـــادة القرآن إذا ذكر الكتاب المشتمل على عمل العبد؛ حيث يعرض يوم القيامة أردفه بذكر الـكـتـاب المشتمل على الأحكام الدينية في الدنيا التي تنشأ عنها المحاسبة عملاً وتركاً، كما قال فـي سورة الكهف: ((ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه…)) [الكهف: 49] إلى أن قال:((ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل… )) [الكهف: 54].
والقواعد في هذا الباب كثيرة ومثيرة، وليس هذا موطن استقصائها.
أنواع المناسبات: (انظر: مباحث في التفسير الموضوعي: 68 وما بعدها)
للمناسبات في القرآن ثلاثة أنواع:
الأول: المناسبات في السورة الواحدة.
الثاني: المناسبات بين السورتين.
الثالث: مناسبات عامة.
ولـكــل نــــوع من هذه الأنواع أقسام كثيرة وسنقتصر في هذه العجالة على بعضٍ منها، مما يتضح به المقصود وينفتح به الباب للطالب الراغب.
النوع الأول: المناسبات في السورة الواحدة، ويتضمن أقساماً، ومنها:
أولاً: المناسبة بين أول السورة وخاتمتها:
مثاله: قوله ـ تعالى ـ: في أول ســـورة البقرة: ((الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون)) [البقرة: 3]، ثم قال في آخر السورة: ((آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله… ))[البقرة: 285] فهو في أول السورة يذكر صفات المتقين التي يتميزون بها وفـي آخــــر السورة يبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه قد امتثلوا تلك الصفات وتحلوا بها.
مـثـال آخــــــر: في سورة (المؤمنون) افتتح السورة بذكر فلاح المؤمنين ((قد أفلح المؤمنون)) [المؤمنون: 1]، واختتمها بنفي فلاح الكافرين ((ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون)) [المؤمنون: 117].
ثانياً: المناسبة بين الآية والتي تليها:
مـثـالـــه: قوله ـ تعالى ـ: إياك نعبد وإياك نستعين الفاتحة: 5 فإنه لما ذكر في أول السورة استحقـاق الله ـ تـعــالى ـ لكل المحامد، وكونه رباً للعالمين، وهو الرحمن الرحيم، وهو مع كل هذا الملك المتصـرف في اليوم الذي لا ملك فيه لأحد إلا لله.. كان من شأن كل عاقل أن يُقبِل على مَنْ هذه صـفـاتــه وتلك عظمته معترفاً بالعبودية له والذل الكامل لجنابه العظيم ملتجئاً إليه طالباً منه العون والمدد، ثم إنه لما حمد وأثنى ومجّد واعترف بالعبودية ناسب أن يستشرف للطلب من ذلك الرب المستعان، فيقول: ((اهدنا الصراط المستقيم)) [الفاتحة: 6].
ثالثاً: المناسبة بين حكمين في الآيات أو الآية:
وذلك كما في آيــات الاستئذان حين أعقبها بالأمـر بغض البصر؛ فإن الاستئذان إنما جعـل مــن أجــل أن لا يقع بصر المستأذن على عورة، ولو صادف أن وقع فإن على المستأذن أن يـغـــض البصر، ثم إن العلاقة بين الحكمين بيِّنة؛ إذ فيهما ذكر ما تكون به العفة وحفظ العورات في المجتمع المسلم.
والمناسبة بين الأمر بحفظ الفرج والأمر بغض البصر تقدمت ـ فيما سبق ـ، وهما حكمان في آية واحدة.
رابعاً: المناسبة بين اسم السورة ومضمونها:
مثاله: المناسبة بين مضمون سورة الكهف واسمها؛ فإن السورة قد ذكرت أنواع الفتن التي تمر بالمرء؛ إذ ذكرت فيها الفتنة في الدين في قصة الفتية، وفتنة الجلساء في قوله:((واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي…)) [الكهف: 28]، وفـتـنــــة المال في قصة صاحب الجنتين، وفتنة العلم فـي قــصـة مـوسـى والخـضـــر، وفتنة السلطان في قصة ذي القرنين، وفتنة القوة والكثرة في خبر يأجوج ومأجوج، وذكرت هذه السورة المخرج من كل واحدة من هذه الفتن؛ فكأنها كهف لمن اعتصم بها من الفتن، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال”( رواه مسلم،ح/809.).
النوع الثاني: المناسبات بين السورتين: ويتضمن أقساماً منها:
أولاً: المناسبة بين فاتحة السورة وخاتمة التي قبلها:
مثاله: في آخر سـورة الإســــراء قـال تـعـالـى: ((وقــل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا…)) [الإسراء: 111]، وفي أول سورة الكهف التي تليها قال: ((الـحـمـد لله الـذي أنـزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا… )) [الكهف: 1].
مثال آخر: في آخر سورة الطور قال: ((ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم)) [الطور: 49]، وفي أول سورة النجم قال: ((والنجم إذا هوى)) [النجم: 1].
ثانياً: المناسبة بين مضمون السورة والتي تليها:
مثاله: في سورة الضحى ذكرٌ للـنـعـم الحـسـيـة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي سورة الشرح ذكر للنعم المعنوية عليه.
مثال آخر: في ســورة الـبـقــــرة ذكـــر للطوائـف الثلاث: المنعم عليهم ويمثلهم المسلمون، والمغضوب عليهم ويمثلهم اليهود، والـضــالـون ويمثلهم النصارى. وقد ذكر في سورة البقرة الطائفتين الأوليين بما هو ظاهر، وفي سورة آل عمــران ذكر الطائفة الثالثة فيما يزيد على “120” آية من أولها.
النوع الثالث: مـنـاسبات عامة:
وهي المناسبات التي يذكرها العلماء مطلقة في القرآن وهي كثيرة جداً أذكر منها نموذجاً للبيان.
– افتُتحت سورتان بقوله: يا أيها الناس وهما: سورتا النساء، والحج، وذكر في الأولى بدء الخلق والحياة للإنسان: ((يا أيـهـــا الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء)) [النساء: 1]، وفـي سـورة الحج ذكر لنهاية هذه الحياة وبداية حياة أخرى: ((يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم)) [الحج: 1].
شبهة وجوابها:
قد يـقـــول قـائـــل: كيف تطلب المناسبات بين الآيات والسور علماً بأنها نزلت مفرقة كل واحدة منها في زمن يخالف زمن الأخرى، وفي قضية مغايرة لمضمون ما جاورها؟ وقد أجاب عن هذا التساؤل الزركشي فيما نقله عن بعض مشايخه المحققين فقال: “قد وهم من قال: لا يطلب للآية الكريمة مناسبة؛ لأنها على حسب الوقائع المتفرقة؛ وفصل الخطاب أنها على حسب الوقائع تنزيلاً وعلى حسب الحكمة ترتيباً؛ فالمصحف كالصحف الكريمة على وفق ما في الكتاب المكنون مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف” ( البرهان:37.).
ويزيد هذا الجـــــواب إيضاحاً الشيخ محمد عبد الله دراز فيقول: “إن كانت بعد تنزيلها جمعت عن تفريق فـلـقـــــد كانت في تنزيلها مفرقة عن جمع، كمثل بنيان كان قائماً على قواعده فلما أريد نقله بصـــورته إلى غير مكانه قدرت أبعاده ورقمت لبناته ثم فُرِّق أنقاضاً، فلم تلبث كل لبنة أن عرفت مكانها المرقوم، وإذا البنيان قد عاد مرصوصاً يشد بعضه بعضاً كهيئته أول مرة” ( مباحث في التفسير الموضوعي، مصطفى مسلم، 57.).
وبعدُ ـ أخي القارئ ـ فهذه كلمات وجيزة أردت بها تعريفك بعلم تفيدك معرفته والاطلاع على حقيقته، واللهَ أسأل أن أكون موفقاً في بلوغ الهدف وتحقيق المقصود.