مات يوم العيد

بعد أن صليت عيد الفطر عام 1412 وأنهيت برنامج الزيارات المعتادة للأقارب والمعارف . رجعت إلى بيتي مؤملاً أن أرتاح قليلاً لأعود إلى بقية الأرحام وذوي الحقوق فأُسلِّم عليهم وأصِلَهُم في ذلك اليوم.

لكن الهاتف فاجأني برنينه فوجدت على الطرف الآخر جارنا الأستاذ إبراهيم الربيعة يسلم علي ويهنئني بالعيد، كان صوته يدل على إعياء وتعب، وبعد سؤال علمت بالمفاجأة التي كانت فاجعة .

قال إبراهيم: تعلم أني ذهبت للعمرة في العشر الأواخر أنا وفهد المزيد ومحمد الرشيد وكلهم من جيراننا، وبعد أن أعلن هلال العيد حزمنا أمتعتنا وأسرعنا متوجهين للرياض التي تبعد ألف كيلو عن مكة رجاء أن ندرك العيد مع أهلنا، كان فهد يقود السيارة لا أدري لعله نام !! .المهم انقلبت بنا السيارة، خرجت سالماً إلا من جراح يسيرة أما فهد فمات رحمه الله وأما محمد ففي العناية المركزة، وكلنا في مستشفى الطائف والحمد لله على كل حال.

وقع الخبرُ عليّ شديداً وعقد لساني ورحت أسترجع وفي الوقت ذاته أتعجب من هذه الخاتمة الحسنة لأخي فهد الذي صام رمضان وقام عشره الأخيرة في أطهر البقاع وأدى عمرة رمضان الفاضلة التي تعدل حجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .ثم مات في حادث سيارة، وهذه شهادة إن شاء الله ؛ لأن الميت بحادث السيارة يعد من شهداء الهدم .

قال لي إيراهيم : وهو يقطع علي حبل أفكاري ويوقظني من أحزاني: لي إليك حاجة.
قلت : وما هي؟
قال: تذهب إلى أهل فهد وتبلغهم بخبر وفاته ليقوموا بواجبه من الدفن والصلاة ويعجلوا به كما هي السنّة .
قلت: أما وجدت لهذه المهمة أحداً غيري، ألا تعلم يا إبراهيم أننا في يوم عيد، وأسرة فهد مجتمعون الآن ، وينتظرون ابنهم وقرة أعينهم بفارغ الصبر .
قال: لا أجد لها أحداً سواك، والأمر لا يحتمل التأجيل فبادر واستعن بالله.
يا الله ما أصعبها من مهمة وما أشدّه من جهد !!

كانت المكالمة قبيل العصر، صليت العصر ثم ركبت سيارتي وتوجهت إلى بيت أهل فهد، كانت السيارات مجتمعة عند البيت والأطفال كُثر، والفرح بادٍ على الوجوه، ولم يكونوا يعلمون أن الموت قد اختام نفساً عزيزة عليهم .
يا ربِّ ماذا أقول ، وكيف أصنع ؟

طرقتُ الباب، خرج أحد الأطفال، طلبت منه أن يدعو أحد أعمامه ، جاءني أحمد شقيق فهد ورفيقه في العمل ، سلمت عليه وعايدته ، وطلبت منه أن يركب معي لأحدّثه في موضوع خاص ، استجاب وركب، مهدت بتمهيد يسير وأخبرته أنه جاءني اتصال من الطائف – وأخفيت اسم المتصل – يفيد بوقوع حادث للشباب الثلاثة قبل مدينة المويه وأنهم أصيبوا جميعا .
قال لي: ما حالة أخي فهد ؟
قلت وقد انعقد لساني من الحيرة : التفاصيل ليست عندي بشكل دقيق لكن سأوافيكم بها بعد ساعة إن شاء الله.
أردت أن يتوقعوا كل شيء وأن لا أفاجئهم بشيء.

نعم، اليوم عيد، والقوم فرحون، وأنا أحمل الخبر الحزين الذي سيقلب الأفراح أتراحا .
أنزلته من السيارة مبادراً كيلا يمطرني بأسئلته التي قد تكشف الحقيقة. ووعدته بالاتصال. رضي ونزل بعد أن اتفقنا على أن يجمع إخوانه ويخبرهم بوقوع الحادث . بعد ساعة أو أكثر مررت عليه وقلت له: المعلومات التي وصلتني تقول إن فهداً هو أشد الثلاثة إصابةً، فاجأني بسؤاله المحرج: هل مات ؟
قلت له : أمّل خيراً بالله، سيأتي الخبر اليقين بعد ساعة بإذن الله فانتظرني، ثم قلت معرّضا: الحمد لله مثل هذا لو مات فنعمت الخاتمة التي مات عليها. قال أحمد : صحيح ، ميتة طيبة وخاتمة حسنة ولكن… ثم استعبر.
تركته وذهبت لبيتي، وبعد صلاة المغرب اتصلت به وطلبت منه أن يأتيني في البيت. جاءني وسلّم علي وقال مبادراً : بشّر !!!.
قلت له وقد علمت أنه يتوقع خبر الموت : أحسن الله عزاءك في فهد .
بكى وظهرت عليه آثار التأثر كيف !! وفهد كان نورَ البيت وقَضّاء الحاجات الذي يعمل كالنحلة في خدمة الجميع، ولا يستغنى عنه أهل البيت في حاجاتهم الكثيرة.
تذكرت لحظتها جلسةً جلستها مع الشيخ يوسف المطلق مُعَبِّر الرؤى المعروف – رحمه الله – وكان ذلك في ميناء جدة الإسلامي عام 1402 وكنت حينها مرافقا لشيخنا عبدالله بن عبدالرحمن التويجري في رحلة الحج
قال الشيخ يوسف لنا: من نزلت به مصيبة فعليه بالصلاة فإن الله يقويه عليها، ويسليه، ويعينه ثم قص علينا أخباراً في هذا المعنى وصدق رحمه الله فإن الله تعالى قال : {وَاستعينُوا بالصبرِ والصلاةِ وإنّها لكبيرةٌ إلّا على الخاشعِين}
عندها قلت لأحمد : لي طلب،
قال: تفضل .
قلت: تصلي ركعتين.
قال: لكن أريد أن أبلغ إخواني وأهلي فهم ينتظرون الأخبار على أحرَّ من الجمر.
قلت بإصرار: لا ، بل الآن ، وقبل أن تخبرهم ، صل ركعتين ليعينك الله.
امتثل أمري حياء مني وصلى ركعتين.
لما سلّم منهما رأيت وجهاً غير الأول قد كساه الرضا وعلته أمارات التسليم.
التفت إليّ وقال لي: ما ترى؟
قلت : ادع إخوانك عندي هنا لتبتعد بهم عن البيت ورواده ، واصنع بهم ما صنعت بك .
قال: نِعم ما رأيت .
وبدأ بالاتصال بهم وكلّما قدِم أحدهم سلّم عليه وأخبره الخبر فيبكي ويسترجع، فيأمرهم خالد أن يصلوا ركعتين ، فيستغربون الطلب ويحاولون الاعتذار فيصر عليهم فيصلون ووالله ما صلى أحدهم إلا سلّم بوجه غير الذي افتتح به صلاته .
لما اكتمل عقدهم جمعتهم ثم ألقيت فيهم كلمة ذكّرتهم فيه بالصبر والرضا وأجر الصابرين ، وذكرت أن هذه الخاتمة التي ختم الله بها لفهد خاتمة -إن شاء الله- حسنة، ويرجى له بها خير.
ثم سألتهم: وماذا ستفعلون الآن؟
قالوا سنحجز الآن للطائف ونأتي بالجنازة لنصلي عليه بإذن الله غداً في الرياض.
قلت: أوَ خير من ذلك ! والرأي لكم.
قالوا: وما هو؟ قلت: تذهبون به إلى مكة فيصلي عليه العدد الكثير ويدفن في البقاع الطاهرة.
قال أحدهم: ولكن أهله وأقاربه يشق عليهم أن يذهبوا إلى مكة للصلاة عليه.
قلت: هذا صحيح، ولكن هل الأولى أن تراعوا مصلحة الميت أو مصلحة الأقارب؟
قالوا: بل مصلحة الميت أهم وأولى.
قلت: أرأيتم لو كان أحدكم مكانه أيما أحب إليه أن يصلى عليه في الرياض أو في الحرم حيث يصطف للصلاة عليك أزيد من نصف مليون إنسان يدعون لك ، كثير منهم وفدوا على الله من مكان بعيد وهم حريون بإجابة الدعاء ؟
قالوا: بل نريد أن يصلى علينا هناك ، وما منا من أحد إلا يتمنى ذلك !!
قلت :فافعلوا بفهد ما تحبون أن يفعل بكم، وأقاربكم أحد رجلين ، من كان قادراً ذهب وكسب الأجر ، ومن كان غير ذلك فهو معذور ، ولا يجب عليه شرعا شيء لأن هناك من قد كفاه .
لقد كان رأياً رشيداً فرحوا به وكانت الهداية له والعمل به من آثار الصلاة وبركاتها .
خرجوا من عندي كأن الميت ليس من أقربائهم من شدة ثباتهم تعلوا محياهم علامات الرضا والتسليم.
أما فهد يا إخواني ، فقد كان شاباً صالحاً ، وكان خدوماً متواضعاً ، خرج مع أخويه في الله إلى مكة للعمرة والمجاورة ليالي العشر، يقول أحدهما: لما صلينا ليلة سبعٍ وعشرين على جملة من الجنائز التفت إليّ فهد وقال: على كثرة من نصلي عليهم لم نتّبع جنازةً واحدةً ، وما رأينا المقابر التي يدفنون فيها ، فما رأيك أن نتبع الجنازة؟ فاعتذرت منه ، فقام من عندي وتبع الجنائز ، ثم جاء وشرح لي ما رأى في مقبرة المعلاة التي صارت مثواه ثاني أيام عيد الفطر المبارك ، أي بعد خمسة أيام من أول زيارة له للمقبرة بمكة .
وفي الليلة التي خرجوا فيها مسافرين كان آخر شيء دخل أجواف الثلاثة ماء زمزم.

رؤي في المنام بعد موته وهو يجلس على كرسي من ذهب ورأته إحداهن وقد قدم له صينية فيها كأس ماء وكأس لبن فاختار اللبن وقال : شربت ماءً قبل قليل ولم تكن تعلم بأن آخر شربة له كانت من زمزم.
لقد مات أبو هيثم فهد بن مزيد المزيد وفي جوفه ماء زمزم، فرحمه الله وغفر له وأخلفه في ذريته خيراً.

 

كتبه : محمد بن عبد العزيز الخضيري .
30/9/1433

أضف تعليقًا