مقدمة في قواعد التفسير

 

التعريف:
القاعدة لغةً: الأصل الذي يبنى عليه غيره.
اصطلاحاً: حكمٌ كلي يتعرف به على أحكام جزئياته.

التفسير لغة: الكشف والبيان.
واصطلاحاً: بيان معاني كلام الله – تعالى -.
وقواعد التفسير: هي الأحكام الكلية التي يتوصل بها إلى استنباط معاني القرآن الكريم، ومعرفة الراجح مما فيه خلاف.
أهمية معرفة القواعد:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية تُرَدُّ إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت؛ وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وظلم وجهل في الكليات، فيتولد فساد عظيم» ( الفتاوى 19/203.).
وقال الزركشي: «أما بعد: فإن ضبط الأمور المنتشرة المتعددة في القوانين المتحدة. هو أوعى لحفظها، وأدعى لضبطها، وهي إحدى حكـم العدد التي وضـع لأجـلها، والحكيم إذا أراد التعليم لا بد أن يجمع بين بيانين: إجمالي تتشوَّف إليه النفس، وتفصيلي تسكن إليه» (المنثور في القواعد 1/65.).
والحاصل أن من عرف قواعد التفسير انفتح له من المعاني القرآنية ما يجل عن الوصف، وصار بيده آلة يتمكن بها من الاستنباط والفهم مع ملكة ظاهرة تصيره ذا ذوق واختيار في الأقوال المختلفة في التفسير(قواعد التفسير 1/38).

 

ميزة القواعد:

تتميز القواعد بالإيجاز في الصياغة مع عموم المعنى وسعة استيعابه للجزئيات وسهولة الحفظ والإشارة إلى المناط والعلة.
المؤلفات في قواعد التفسير:

غالب ما ألف في قواعد التفسير إنما هو في علوم القرآن الكريم ككتاب (التيسير في قواعد علم التفسير) لمحمد بن سليمان الكافيجي (ت 879)، و (أصول التفسير وقواعده) لخالد بن عبد الرحمن العك.

أما التأليف في القواعد ذاتها جمعاً ودراسة ففيه رسالتان فريدتان:

1 ـ قواعد التفسير جمعاً ودراسة، لخالد بن عثمان السبت في مجلدين وهي رسالة دكتوراه مقدمة في الجامعة الإسلامية.

2 ـ قواعد الترجيح عند المفسرين، لحسين بن علي الحربي في مجلدين، وهي رسالة ماجستير مقدمة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وموضوع الثانية أخص من الأولى؛ إذ هي في القواعد الترجيحية.
وقد ضمَّن الكاتبون في علوم القرآن وفي أصول التفسير كتبهم فصولاً في قواعد التفسير ككتاب البرهان لبدر الدين الزركشي (794هـ)، والإتقان لجلال الدين السيوطي (911هـ).
إضافة إلى ما زخـــرت به مقدمــات المفسرين في تفاسيرهم كـ مقدمة (النكت والعيون) للماوردي، ومقدمة (التسهيل) لابن جزي الكلبي، ومقدمة (التحرير والتنوير) للطاهر بن عاشور. ومقدمة ابن كثير في تفسيره والتي استفادها من كتابة شيخ الإسلام في أصول التفسير.
أما المصدر التطبيقي الثّر فهي كتب المفسرين المؤصلة كتفسير الطبري، والمحرر الوجيز لابن عطية، وأضواء البيان للشنقيطي.
أنواع القواعد:

للقواعد تقسيمات باعتبارات مختلفة، ومن ذلك تقسيمها باعتبار الغاية منها، وهي على نوعين:
الأول: قواعد عامة يستفاد منها في فهم القرآن؛ كقاعدة: «المفرد المضاف يفيد العموم».
كقوله – تعالى – : وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى: 11]. وقوله: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم: 34] المقصود: نعم الله.

الثاني: قواعد ترجيحية يستفاد منها في الموازنة بين الأقوال، ومعرفة الراجح منها والمرجوح؛ كقاعدة: «القول الذي تؤيده قرائن السياق مرجح على ما خالفه»، كقوله – تعالى – : مّا يّكٍونٍ مٌن نَّجًوّى” ثّلاثّةُ إلاَّ هٍوّ رّابٌعٍهٍمً [المجادلة: 7] أي بعلمه، قالوا: لأن الله افتتح الآية بالعلم وختمها بالعلم(قواعد الترجيح، 1/301)، وقوله – تعالى – : كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا [الأنبياء: 30] قال ابن جرير: «وأوْلى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا [الأنبياء: 30] من المطر والنبات. ففتقنا السماء بالغيث والأرض بالنبات، وإنما قلنا: ذلك أوْلى بالصواب؛ لدلالة قوله – تعالى – : وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء: 30] على ذلك».

وليعلم أن الأقوال إذا كانت محتملة في الآية وبنفس القوة فإنه لا ترجيح بينها، كقوله: اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى [الرعد: 8] «الله يعلم ما تحمل كل أنثى» فما يحتمل أن تكون (موصولة) والمعنى: يعلم الذي تحمله كل أنثى من ولد على أي حال كقوله: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ [لقمان: 34]. ويحتمل أن تكون (مصدرية) والمعنى: يعلم حمل كل أنثى كقوله: وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فاطر: 11].

ويكون الترجيح بين الأقوال إذا تعارضت، أو عارض بعضها نصاً أو إجماعاً، أو لم يكن بينها تعارض ولا مع غيرها؛ لكن كان بعضها أوْلى من بعض.

مثال الأول: خلافهم في تفسير (القُرْء).
ومثال الثاني: من ادعى جواز الجمع بين تسع حرائر مستدلاً بقوله: مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ [فاطر: 1] فهو خلاف إجماع الأمة وما روي عن سعيد بن المسيب: «ما سكر آدم من الشجرة وهو يعقل، ولكن سقته حواء من الخمر حتى إذا سكر قادته إليها فأكل» فهذا معارض لقوله – تعالى – : لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ [الصافات: 47] ( البحر المحيط 1/261).
ومثال الثالث: قوله – تعالى -: ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ [عبس: 20] قيل: طريق خروجه من بطن أمه لدلالة السياق، وقيل: طريق الخير والشر. لقوله: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا. [الإنسان: 3].
تنازع القواعد:

إذا تنازعت القواعد المثالَ الواحدَ؛ بحيث صار لكل قول قاعدة ترجحه فإن المعتبر به غلبة ظن المجتهد كما قال الزركشي: «واعلم أن التراجيح كثيرة، ومناطها: ما كان إفادته للظن أكثر فهو الأرجح، وقد تتعارض هذه المرجحات كما في كثرة الرواة وقوة العدالة وغيره، فيعتمد المجتهد ما غلب على ظنه» ( البحر المحيط، للزركشي 6/159.).
وقال الشنقيطي: «والمرجحات يرجع بعضها على بعض؛ وضابط ذلك عند الأصوليين هو قوة الظن» (أضواء البيان 5/371.).
مثال ذلك: قوله – تعالى – : وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء [النساء: 22] ففيها قولان:
الأول: ولا تنكحوا من نكح آباؤكم من النساء؛ فمنكوحة الأب حرام على ابنه و (ما) في الآية موصولة، ويدل عليه سبب نزول الآية؛ حيث إن قيس بن صيفي بن الأسلت خطب امرأة أبيه فأنزل الله الآية.

الثاني: ولا تنكحوا نكاح آبائكم الفاسد الذي يتعاطونه في الجاهلية، و (ما) مصدرية؛ قالوا: لأن (ما) لا تكون إلا لغير العاقل غالباً، والقاعدة: وجوب حمل كلام الله على المعروف المشهور من كلام العرب.

ولا شك أن القول الأول هو الصواب لاعتماده على سبب النزول، هذا فضلاً عن كون (ما) وردت للعاقل في غير ما آية من غير نكارة ولا شذوذ كقوله: وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ [النحل: 62] وقوله: إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي [آل عمران: 35].
نماذج من قواعد التفسير:

القاعدة الأولى: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
أي: إذا وردت الآية على سبب خاص فإنها لا تُقصَر عليه، بل يُنظر إلى عموم لفظها؛ ومثالها: قوله – تعالى – : إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الكوثر: 3] قيل: نزلت في العاص بن وائل السهمي، وقيل: نزلت في عقبة بن أبي معيط، وقيل: نزلت في جماعة من قريش. قال ابن جرير: «وأوْلى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال إن الله – تعالى – ذِكْرُه ـ أخبر أن مبغض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هو الأقل الأذل المنقطع عقبه؛ فذلك صفة كل من أبغضه من الناس، وإن كانت الآية نزلت في شخص بعينه».

القاعدة الثانية: الخبر على عمومه حتى يأتي ما يخصصه.
مثالها: قوله – تعالى – : وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ [البلد: 3]. قيل: آدم وولده، وقيل: إبراهيم وولده. وقيل: بل هي عامة في كل والد وولده. وهو الصحيح، قال ابن جرير: والصواب من القول في ذلك ما قاله الذين قالوا: أقسم الله بكل والد وولده؛ لأن الله عمَّ كل والد وما ولد. وغير جائز أن يخص ذلك إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل، ولا خبر بخصوص ذلك، ولا برهان يجب التسليم له بخصوص؛ فهو على عمومه كما عمه».

القاعدة الثالثة: إذا اختلف المعنى الشرعي والمعنى اللغوي فالمقدم الشرعي إلا بدليل؛ لأن القرآن نزل لبيان الشرع لا لبيان اللغة.
مثالها: قوله – تعالى – : وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا [التوبة: 84] فالصلاة في اللغة: الدعاء.
وفي الشرع: صلاة الجنازة والمقدم المعنى الشرعي.
فإن دل الدليل على اعتبار اللغوي دون الشرعي وجب الأخذ به كما في قوله – تعالى – : خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [التوبة: 103] أي: ادع لهم؛ ودليله حديث عبد الله ابن أبي أوفى؛ حيث قال: «كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صلِّ على آل فلان! فأتاه أبي بصدقته: فقال: اللهم صلِّ على آل أبي أوفى! »( أخرجه البخاري، رقم 1497، ومسلم، رقم 1077).

القاعدة الرابعة: تحكيم السياق عند الاختلاف.
مثالها: قوله – تعالى – : عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ [البقرة: 187] قيل: هو الولد، وقيل: ليلة القدر، وقيل: ما أحله لكم ورخص لكم، والأول أرجح لمناسبته السياق؛ حيث جاء عقيب قوله: فّّالآنّّ بّّاشٌرٍوهٍنَّ [البقرة: 187].

القاعدة الخامسة: تحكيم الرسم عند الاختلاف.
مثالها: قوله – تعالى – : سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى [الأعلى: 6] قيل: (لا) نافية، وقيل: ناهية. والصواب الأول؛ لأنها لو كانت ناهية لجزم الفعل بحذف حرف العلة.

وكذلك قوله – تعالى – : وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين: 3] ففي الضمير (هم) في الفعلين قولان:

1 ـ أنه يعود على الناس؛ ويكون الضمير في موضع نصب.
2 ـ أنه يعود على واو الجماعة في (كالوا ووزنوا) ويكون في موضع رفع مؤكداً لواو الجماعة.

والراجح الأول؛ لأنه لو كانت كلمة (كالو) مستقلة و (هم) مؤكدة لأتبعت (كالو) في الرسم بألف الفرق(وتسمى أيضاً ألف التفريق أو ألف الجماعة) لكتبت (كالوا هم) وليس الأمر كذلك.

القاعدة السادسة: يجب تفسير المعنى على الأغلب من استعمال العرب. أي دون الشاذ والقليل والمنكر.
مثالها: قوله – تعالى – : لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا [النبأ: 24] قيل في البرد قولان:
الأول: برد الهواء الذي يبرد جسم الإنسان.
والثاني: النوم.
قال ابن جرير: «والنوم وإن كان يبرد غليل العطش، فقيل له من أجل ذلك: البرد؛ فليس هو باسمه المعروف، وتأويل كتاب الله على الأغلب من معروف كلام العرب دون غيره»، وبمثله قال النحاس (إعراب القرآن 5/132.).

القاعدة السابعة: وجوب مراعاة معهود القرآن وطريقته في البيان.
والمراد: أن اختيار التأويل الموافق لطريقة القرآن ومعهوده الكلي أو الأغلبي هو المتعين:
مثالها: قوله – تعالى – : إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ [الطارق: 8] في مرجع الضمير في (رجعه) قولان:

1 ـ أنه يعود إلى الإنسان، والمعنى: أن الله قادر على رده للحياة بعد موته.

2 ـ أنه يعود إلى الماء، والمعنى: أن الله قادر على رد الماء إلى الصلب أو الإحليل؛ والصواب الأول؛ لأن المعهود في القرآن الاستدلال بالمبدأ على المعاد.

وأما القول الثاني «فلم يأت لهذا المعنى نظير في موضع من القرآن» (البيان، ص 66).
وأيضاً قوله – تعالى – : فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ [الواقعة: 75] قيل: آيات القرآن، ومواقعها نزولها شيئاً بعد شيء، وقيل: هي النجوم المعروفة في السماء. وهو الراجح؛ لأن النجوم حيث وقعت في القرآن فالمراد بها الكواكب؛ كما قال ابن القيم (التبيان، 136.).

أضف تعليقًا